صنعاء - سبأ : مركز البحوث والمعلومات : خالد الحداء
خلال عقود من الزمن ساهمت العولمة في تقريب العالم بصورة كبيرة وغير مسبوقة وفي مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية والصحية، واصبح العالم يعيش من خلال العولمة الكثير من القواسم المشتركة، بعد أن استطاعت أن تتخطى كل الحدود دون سابق إنذار.
وكما أن للعولمة ايجابيات فإن لها عدد من السلبيات بما فيها الجانب الصحي، ولتتشكل مع مرور الوقت مخاوف مشتركة للأمن الصحي العالمي والذي يُعرف حسب "منظمة الصحة العالمية" بأنه: الأنشطة التي تخفض إلى أدنى حد مخاطر وتأثيرات الأحداث الصحية المهددة لسلامة سكان المناطق الجغرافية أو العابرة للحدود.
وفي العقود الأخيرة من القرن الماضي اعتبرت الأمراض المعدية نوعاً جديداً يضاف إلى مجموعة المشاكل الأمنية المتعددة "العابرة للحدود" هذا الواقع الجديد فرض على الساسة تغيير فرضية "أن للدولة قدرة على حماية نفسها من أي أوبئة خارج الحدود الوطنية" لكونها نظرة خاطئة لم تعد تواكب المتغيرات النابعة من حقيقة أن العالم اصبح قرية واحدة، وما حدث من تفشي للأوبئة على مستوى العالم يؤكد على أن هناك خلل عميق في من يتبنى تلك الافكار لكون الأوبئة في عالم اليوم تعتبر تحدياً للمفهوم التقليدي الذي يركز على رؤية جعلت من الدولة المحور الأول والأخير في التحليل الأمني.
وفي سياق المتغيرات التي فرضتها العولمة، كان من الواضح أن التوجه الدولي في طريقه إلى تعزيز أهمية الأمن الصحي وتحديداً في العام 1994 عندما تضمن تقرير التنمية البشرية الصادر عن "برنامج الأمم المتحدة الإنمائي" مفهوم الأمن الصحي الذي وصفه "بأنه أحد أركان مفهوم الأمن الإنساني الشامل"، وشدد التقرير الأممي "أن من الضروري الانتقال بمفهوم الأمن التقليدي إلى ما هو أوسع ليشمل الإنسان عوضاً عن الدولة" على اعتباره المحور الرئيس للأمن، خاصة مع تزايد التهديدات كماً ونوعاً التي تواجه الإنسان خلال العقود الأخيرة.
والمتابع لواقع التعاون الدولي في هذا المنحى، يتبين له أن التأكيد على أهمية الامن الصحي الجماعي في التقارير والمؤتمرات الدولية، لم يجد له طريقاً على أرض الوقع سوى في "الحدود الدنيا" فيما الواقع يحكي غير ذلك ولا سيما مع إعلان منظمة الصحة العالمية عن تحول انتشار فيروس كورونا إلى جائحة ووباء دولي في 13من شهر مارس 2020، حيث لم تسجل الجهود الدولية شراكة حقيقة في سبيل الحد من انتشار الوباء، خاصة وأن التعاون لم يكن جزء من الاستراتيجيات الوطنية في ما يسمى "الأمن الصحي الوطني"، وأن أغلب الدول لم تكن تضع في خططها الطارئة أن يكون هناك تنسيق في حال كان هناك مرض أو وباء على المستوى العالمي ، بمعنى آخر أن أوائل الدول المتضررة من جائحة كورونا كافحة بمفردها دون أي دعم أو تنسيق يذكر بل أن الوقائع سجلت اندفاع الدول نحو الانغلاق على نفسها من خلال إغلاق الحدود ومنع السفر والطيران وإيقاف التجارة الخارجية، وبات المشهد أن الدول تواجه الفيروس وحدها وبإمكانياتها الصحية الذاتية، ولم يقف التقوقع الداخلي عند هذا الحد ولكنه ازداد سوء مع تزايد حالات القرصنة "ما بين بعض الدول" على الكمامات ومعدات الحماية الطبية في المطارات والموانئ المختلفة.
كان من الواضح أن حالة الهلع التي سادت العالم خلال الأسابيع الأولى من تفشي الوباء على مستوى الكرة الأرضية كان سببه فقدان التعاون والتنسيق ما بين الدول والدول الكبرى على وجه التحديد، بالإضافة إلى تعاظم حالات الخوف "من بعض الدول" والذي انعكس بدوره على ارتفاع الطلب على المعدات الطبية وبما يفوق حاجتها من جهة وارتفاع الأسعار من الجهة أخرى.
حسب العديد من المراقبين فإن حالة التخبط الذي رافق انتشار وباء كورونا تفاقمت بعد إعلان عدد من الدول التنافس في إنتاج لقاح أو علاج للقضاء على وباء كورونا، متناسين أن التخلص من الوباء أو الحد منه لن يكون سوى بجهود وتنسيق عالمي مشترك خاصة في ظل عولمة جعلت من الأمراض والأوبئة عابرة الحدود مهما كانت الاحترازات المتخذة من قبل الدولة، ولم تكن حالة التخبط حكراً على الدول فالمنظمات الدولية الكبرى عانت من التخبط ذاته، ولا سيما منظمة الصحة العالمية (واحدة من عدة وكالات تابعة للأمم المتحدة متخصصة في مجال الصحة) مع مسار أزمة وباء كورونا، حيث أنها لم تكن على استعداد كافي للتصدي للوباء القاتل، ولم يكن لها القدرة على تقديم المساعدات الطارئة للدول الأكثر تضررا من الجائحة خاصة الدول النامية.
بالمقابل هناك من يرى أن تحميل منظمة الصحة العالمية وزر ما حدث غير واقعي ولا يعكس حقيقة أن المنظمة الأممية سعت منذ البدايات الأولى إلى التصدي للمرض من خلال تعبئة الموارد المتاحة قدر المستطاع، ولكن القيود المفروض على المنظمة لم يمكنها من التحرك سريعاً لكونها لا تملك التفويض الدولي المناسب للضغط على الدول للكشف عن مستوى انتشار الوباء فيها أو الزامها بتقديم البيانات الصحية المرتبطة بكيفية انتشار ومكافحة الفيروس، إضافة إلى أن المنظمة لا تملك الموارد الضرورية في كثير من الاحيان وإن طالبت بمزيد من الأموال في سبيل القيام بدورها فإن ذلك يقابل بمزيد من الابتزاز السياسي من قبل بعض الدول، وهو ما حدث عملياً من قبل الولايات المتحدة الامريكية التي أعلنت عن قطعها الدعم المالي على المنظمة الدولية، عقاباً لها بعد اتهامات بالخضوع لسيطرة الصين ولفشلها في نشر المعلومات الكافية بشأن الفيروس .
وللمفارقة خلال جائحة فيروس كورونا (COVID-19 )، أن الفشل في إيقاف الوباء شمل الجميع دون استثناء، ولكن بنسب مختلفة ومرد هذا الفشل أن فيروس كورونا المستجد وحسب الخبراء وباء يسهل تفشيه وانتقاله على نطاق واسع، وهو ما كان يستوجب الإجماع الدولي في مرحلة مبكرة أن الأمن الصحي العالمي مقدم على ما دونه من خلافات، وكان من الواجب توجيه الموارد باتجاه رفع مستوى الأمن الصحي، الذي يتطلب بدوره مزيد من الاهتمام بالبحوث والابتكارات الطبية وتذليل كافة المعوقات السياسية والاقتصادية والتشريعية في سبيل مواجهة الجائحة.
جدير بالذكر، أن الأشهر الماضية كشفت عن أن انماط التجارب والاستجابة للدول قد تباين وبصورة كبيرة ما بين استجابة سريعة وإيجابية من قبل الدول المتقدمة وأخرى بطيئة وسلبية من قبل الدول النامية والفقيرة، وكان من الواضح أن لكل تجربة ما يميزها عن غيرها من التجارب، تبعاً للمعايير التي جرى تطبيقها، ومن تلك المعايير: سرعة الاستجابة، الاستقرار السياسي داخل الدولة، التجارب السابقة ،كذلك مستوى التفاعل ما بين القرارات الحكومية والمجتمع، المنظومة الصحية عموماً والإجراءات الاحترازية السابقة للمواجهة، القدرات والامكانيات الاقتصادية للدولة، ولكن ما يجب التأكيد عليه أن التجارب أثبتت "وبما لا يدع مجالاً للشك" أن الاختلاف في حجم ومستوى الإجراءات ما بين الدول لم يشكل فارقا حاسماً على مستوى تفشي الوباء، فيما كان الفارق الحقيقي ،وحسب أغلب خبراء الصحة، يتمحور حول مستوى وعي أفراد المجتمع ومدى التزامهم بالإجراءات الصحية المناسبة.
اليوم وبعد أن بدء العالم في تنفس الصعداء من جديد مع انتشار اللقاحات المضادة لفيروس كورونا، لا بد أن نشير أن التجربة التي عاشها العالم ، كانت قاسية ومؤلمه خاصة مع ارتفاع أعداد الوفيات إلى أكثر من اثنين مليون حالة، وتجاوز أعداد المصابين حاجز الـ 100 مليوناً حالة إصابة حول العالم، هذا الواقع فتح الباب على مصراعيه أن من الضروري البحث عن بناء نظام عالمي جديد يرعى التعاون ويسعى إلى تعزيز المصالح المشتركة بين الدول والشعوب وبما يسمح في المحصلة النهائية من خدمة البشرية جمعاء.