الأبعاد الاستراتيجية لاتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة


https://www.saba.ye/ar/news3121623.htm

وكاله الانباء اليمنيه سبأ | سبأنت
الأبعاد الاستراتيجية لاتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة
[27/ ديسمبر/2020]

صنعاء - سبأ : مركز البحوث والمعلومات

مع مرور عام على جائحة كورونا، والخسائر الضخمة التي ضربت الاقتصاد العالمي نتيجة لحالة الركود التي وصل إليها، ها هي الصين تقود قاطرة أضخم حلف اقتصادي عالمي على مر التاريخ، وتكسر أسوار عزلة كانت تهدد بها من قبل الأميركي وبعض الأوربيين تحت ذريعة التسبب بنشر الفيروس، وتحميلها مسؤولية تلك الخسائر، في سياق تحريضي حاول أن يحد من طموحات الصين في تزعم الاقتصاد العالمي وكسر الهيمنة الأميركية على العالم، ويعرقل مشاريعها العملاقة التي كانت تتسارع وتيرتها على امتداد خارطة طريق الحرير البحري والبري.


اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة التي وقعت في 15 نوفمبر 2020 خلال لقاء افتراضي رعته دولة فيتنام، وضمت كلا من الصين واليابان وجمهورية كوريا واستراليا ونيوزيلندا، ودول رابطة جنوب شرقي آسيا "آسيان" العشر (بروناي وكمبوديا وإندونيسيا ولاوس وماليزيا وميانمار والفلبين وسنغافورة وتايلاند وفيتنام)، من المتوقع أن تدخل حيز التنفيذ خلال عام من تاريخها بعد اكتمال الإجراءات القانونية المتعلقة بالمصادقة عليها في كل دولة من الدول المشاركة.


وتهدف الاتفاقية لإنشاء سوق اقتصادية حرة تقوم على:
إلغاء الرسوم الجمركية على بعض السلع بصورة فورية.
تخفيض الرسوم الجمركية على أغلب السلع المتبادلة تمهيدا لإلغائها تماما بصورة تدريجية.
إطلاق حرية تبادل العديد من الخدمات بين الدول المشاركة.
تشجيع الاستثمار لتعزيز الاقتصادات المشتركة، وتعزيز سلاسل التوريد وفق قواعد منشأ مشتركة.


وبموجب هذه الاتفاقية تنشأ أكبر سوق تجاري حر في العالم؛ حيث يبلغ تعداد سكانها ثلث سكان العالم، ويمثل اقتصادها 30 بالمائة من إجمالي حجم الناتج المحلي العالمي، ويمكن توقع إمكانية توسع هذه السوق، نظرا لأن الاتفاقية ليست مغلقة العضوية، بل ترك الباب مفتوحا أما دول أخرى للانضمام إليها، كحال الهند التي انسحبت منها قبل توقيعها، أو إقليم هونج كونج الذي أكدت سلطاته سعيها في الدخول للاتفاقية.


ورغم أن هذه الاتفاقية تحمل طابعا إقليميا اقتصاديا، إلا أن تبعاتها لا يمكن أن تقتصر فقط على دول هذه المنظومة فحسب، كما لا يمكن فصل الاقتصادي عن السياسي، خصوصا مع تحالف بهذا الحجم.


إذ تضم هذه الشراكة دولة الصين، الدولة الشاسعة بإمكاناتها الصناعية والتقنية ومساحاتها الزراعية، صاحبة المركز الاقتصادي الثاني عالميا، والمتوقع تربعها على المركز الأول عام 2028، بحسب ما نقلته شبكة CNBC عن التقرير السنوي لمركز أبحاث الاقتصاد والأعمال، وذلك قبل خمس سنوات مما كان متوقعاً، ويرجع ذلك إلى تباين تعافي البلدين من كورونا ومهارة الصين في إدارة ملف الجائحة، وما فرضته من إجراءات عزل عام صارمة في بدايات الأزمة.


إضافة إلى تكتل الآسيان، الذي يعد قوة اقتصادية كبيرة عالميا، استطاعت دوله الوصول لمراحل متقدمة في مجال التقنية المعلوماتية، أما جغرافيا فيشكل ممرا تجاريا ضخما يربط بين أستراليا ونيوزلندا والصين واليابان وكوريا الجنوبية والهند، ويقع فيه مضيق ملقا، نقطة الاختناق البحرية الأساسية في آسيا، وأقصر طريق بحري بين الشرق الأوسط وأفريقيا والأسواق الآسيوية، وأحد أكثر الممرات المائية حيوية في العالم من ناحية حركة السفن ونقل البضائع التجارية وحاويات النفط والغاز.


أما اليابان وكوريا فبرغم أزماتهما الاقتصادية، إلا أنهما يعدان من أقوى الاقتصادات العالمية، القائمة على التصنيع الثقيل، والتقنية الذكية، وأكثر العلامات التجارية موثوقية ومنافسة على مستوى العالم.


وكذا أستراليا ونيوزلندا، فاقتصادهما القوي والمتقدم في الجوانب الخدمية والصناعات التحويلية، والأسواق المالية الضخمة، وكذا الثروات الكبيرة التعدينية والحيوانية، يعد إضافة كبيرة لقوة هذا التحالف التجاري.


إن هذا التنوع بين دول الاتفاقية، والكثافة السكانية الهائلة، يشكلان عاملا مهما في التكامل الاقتصادي، حيث تتوافر اليد العاملة المهنية والرخيصة، إضافة إلى سوق استهلاكية كبيرة تتلقف منتجات هذه الدول.


كل ذلك يجعلنا نقف أمام قوة اقتصادية ضخمة يتوقع أن تكتسح الأسواق العالمية ومن بينها أسواق الشرق الأوسط وأفريقيا وحتى الأسواق الأوروبية.


لم يكن الوصول لهذه الاتفاقية بالأمر الهين؛ إذ تطلب الحصول على موافقة الدول الخمس عشرة الموقعة، المرور بثماني سنوات من النقاشات المستفيضة والمعقدة وصولا لتاريخ التوقيع. وما حفز هذه الدول على ذلك هو الوقوع في دوامة الركود الاقتصادي الخطير كأحد أهم تداعيات انتشار وباء كورونا، ولقد وجدت فيه مخرجا لخسائرها الضخمة خلال العام الحالي، بما يمكنها من تحسين اقتصاداتها المتضررة والمنهكة، الأمر الذي سينعكس إيجابا على الاقتصاد العالمي ويساهم في عدم الوقوع في فخ الكساد الأكبر الذي يتخوف منه اقتصاديو العالم.


ولا يمكن الحديث عن هذه الشراكة بمعزل عن أبعادها وتداعياتها السياسية والاستراتيجية؛ خصوصا ما يتعلق بالصراع الصيني الأميركي على زعامة النظام العالمي، والاختلافات الجوهرية بين النظرة الأميركية بنسختها الترامبية للعلاقة مع الدول الأخرى، القائمة على الانعزالية والأحادية التجارية، التي أرهقت الحلفاء والأخصام عقوبات ورسوما جمركية باهظة وغير عادلة، ما كبدها خسائر كبيرة. بخلاف النظرة الصينية الانفتاحية، التي ترى في العلاقات التجارية القائمة على المنفعة المشتركة وتخفيض الرسوم الجمركية وصولا لإلغائها على نحو متبادل بين الشركاء وفقا لمعايير التجارة الحرة، الطريق الأنسب والأكثر عدالة الذي يخدم جميع الدول الشريكة بما فيها الدول ذات الاقتصادات الضعيفة.


إن التوقيع وفي هذا التوقيت بالذات يعد انتصارا للديبلوماسية الصينية، التي تمكنت من التحالف التجاري مع حلفاء تقليديين للولايات المتحدة رغم عدم مشاركة الأميركيين في الاتفاقية، بل ينظر لهذا التحالف على أنه منافس لاتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ التي وقعت في العام 2016 وحظيت بدعم الرئيس أوباما، وتضمنت شركاء حاليين للصين كأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وبعض دول الآسيان، وكانت تهدف من الناحية الجيوسياسية، من ضمن ما تهدف إليه، للحد من النفوذ الصيني في الإقليم، عبر تعزيز مواقع الدول الحليفة للأميركي، وتقليل اعتمادها على التجارة الصينية وتقريبها من الولايات المتحدة.

ومع انسحاب الأخيرة منها في عهد ترامب العام 2017، وتزايد وتيرة السياسة الانعزالية وتضرر الحلفاء منها، قرر هؤلاء تناسي مخاوفهم وتأجيل خلافاتهم، والبحث عن بدائل تحقق لهم التعافي الاقتصادي خصوصا في ظل الظروف الراهنة.


وبدخول هذه الاتفاقية حيز التنفيذ ستتأثر وبشكل قوي مكانة الدولار لاحقا وهو عصب الاقتصاد الأميركي، ولم تحسم للآن مسألة العملة التي ستعتمد في معاملاتها التجارية، والتي ستكون بين ثلاثة خيارات مطروحة وهي:

التعامل بالذهب أو بالعملات المحلية أو المقايضات السلعية، وسواء تم اعتماد أحد هذه الخيارات أو جميعها، فهي ستقود وبتلقائية للحد من استخدام الدولار الأميركي في التجارة الدولية، الأمر الذي سيضعفه بصورة تدريجية ومعه نفوذ وسيطرة الولايات المتحدة، وسنجد الصين وعملتها المحلية التي انتهجت شراء الذهب في السنوات الأخيرة والتخلص من سندات الخزينة الأميركية، من أكبر الرابحين جراء ذلك، الأمر الذي سيعزز بالتأكيد من نفوذها الإقليمي والدولي، خصوصا وأن الصين قد وقعت العديد من اتفاقيات التجارة الحرة إلى جانب الأخيرة هذه، في إطار سعيها الدؤوب لتحقيق مشروعها الأضخم "طريق الحرير".


ومع انتهاء فترة الرئيس ترامب، تنتظر الرئيس المنتخب جو بايدن العديد من الملفات الشائكة، ومن أهمها العلاقات مع الصين، والسياسات الاقتصادية التي انتهجها سلفه، وأفقدت الولايات المتحدة مصداقيتها لدى حلفائها، ودفعتهم للتعاون مع الصين منافسها اللدود. وهو ما سيضع تسآؤلات عديدة عن السياسة التي سينتهجها بايدن في التعاطي مع هذا التكتل التجاري الضخم الذي سيؤثر بصورة سلبية على مكانة الدولة الأميركية كقائد للنظام الاقتصادي والسياسي العالمي، وليس من المستبعد أن يحاول تفكيك مفاعيل هذه الاتفاقية عبر محاولات استقطاب حلفاء بلاده السابقين وإغرائهم بتخفيف القيود التي فرضها ترامب، والسير في اتفاقيات ثنائية أو جماعية معهم ومع حلفاء آخرين، وربما العودة لاتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ التي ذكرت آنفا.


إن قدرة بايدن على تحقيق اختراقات هامة في هذا السياق ستعتمد في المقام الأول على تأكيد مكانة الولايات المتحدة في قمة النظام الدولي الحالي وقدرتها على الصمود فيه وتجاوز مشاكلها الداخلية  والخارجية والتي هي أكبر من موضوع إخفاقات في عهد ترامب وسياساته، بل يبدو أنها مشاكل عميقة تحفر في بنية النظام الأميركي السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتخلخل مكوناته، والتي مع مرور الوقت تؤكد لأصدقاء النظام قبل أعدائه، أن الولايات المتحدة باتت في مرحلة الانحدار والتحول من القوة الأعظم للعالم إلى قوة يمكن اعتراضها بل تجاوزها والتفوق عليها.