
صنعاء - سبأ: مركز البحوث والمعلومات
لم يكن وصف الصحف الأميركية ومن بعدها الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومسؤولون في إدارته لفيروس كوفيد19 المستجد بالفيروس الصيني، منذ بدايات إعلانه، أمرا اعتباطيا أو مرتبطا بنزعة عنصرية ما فقط، بل هو أولا نهج مقصود يرتبط أكثر بعقلية التاجر الانتهازي التي يمثلها ترامب خير تمثيل..
وإذ تطور الأمر من مجرد وصف يحمل بعدا عنصريا ساهم في العديد من المضايقات لصينيين في مختلف دول العالم، إلى حملة منظمة متدرجة وصلت لمرحلة متقدمة إعلامية وسياسية وقضائية مرشحة للتطور أكثر ضد الحكومة الصينية شارك فيها قادة ومسؤولون غربيون تحت ذريعة جملة من الاتهامات تتراوح بين تخليق الفيروس في مختبرات مدينة ووهان التي بدأ منها انتشار المرض في الصين إلى القول بإخفاء معلومات وعدم الشفافية في المراحل الأولى من المرض، ما أدى لمزيد من الأضرار والخسائر في الدول الأخرى، مطالبة في السياق بتحقيق دولي حولها، وبعقوبات قاسية لو تم إثباتها.
بدورها الصين رفضت كل تلك الاتهامات غير القائمة على أدلة وأي تحقيقات دولية حولها، كما أنها لم تسكت منذ البداية وردت عبر اتهامات غير رسمية للولايات المتحدة، جاءت عبر صفحة المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الصينية “تشاو لي جيان” في تويتر، بأنها قد تكون وراء نشر الفيروس القاتل في مدينة ووهان عبر جنود شاركوا في دورة عسكريّة عالميّة فيها في أكتوبر من العام الماضي. كما أشار لاحقا لوجود إثباتات على أن وكالة المخابرات المركزية هي التي نشرت فيروس كورونا في الصين، وأكد وجود أدلة لكون فيروس كوفيد19 تم إنشاؤه من قبل علماء أمريكيين عام 2015. حيث أن الولايات المتحدة زودت الصين بجميع المعلومات التي بحوزتها عن فيروس كورونا المستجد، وقد اكتشف خبراء الصين في الأرشيف مقالة منشورة عام 2015 في مجلة Nature Medicine، تثبت أن علماء الولايات المتحدة تمكنوا من الحصول على نوع جديد من فيروس كورونا، له تأثير مباشر على الإنسان.
كما استعانت وسائل إعلام صينية بمقال نشَرته صحيفة "نيويورك تايمز" في الخامس من أغسطس الماضي، تناولت فيه وقف أبحاث الجراثيم المميتة في مختبر تابع للجيش الأمريكي للأسلحة البيولوجية في فورت ديتريك بسبب مخاوف تتعلق بالسلامة ومن بين الفيروسات التي كان يجري الخبراء في المختبر تجارب عليها فيروس سارس، وهو من نفس سلالة كوفيد19 التاجية، وبرر متحدث باسم المعهد حينها الإغلاق وعدم نشر أي معلومات عن أسبابه "لضرورات تتعلق بالأمن القومي الأمريكي"، وكيف أن 38 ألفا قتلوا بسبب وجود فيروس غامض، وعتمت الحكومة الأميركية على هذا الأمر، وقالت أن هؤلاء كانوا ضحية مرض الإنفلونزا.
إضافة لما سبق حاولت الصين أن تقدم نفسها بصورة أكثر إنسانية عن طريق ما اصطلح عليه بدبلوماسية الكمامات، حيث أمدت الدول المتضررة بمساعدات من الأطقم والمعدات الطبية، على خلاف الاتحاد الأوروبي الذي خذل دوله وأميركا التي تنصلت من حلفائها. وهي إلى ذلك بحسب تقارير إعلامية مارست ضغوطا وتهديدات بوقف تصدير المعدات الطبية إلى أوروبا، ساهمت في تخفيف حدة لهجة بيان الاتحاد الأوروبي وتراجعه عن اتهام الصين بالتستر على خطورة الوباء.
وبغض النظر عن أصل الوباء ومن يتحمل مسؤولية انتشاره، وعن كل نظريات المؤامرة والحرب البيولوجية، إلا أنه بات من المؤكد أننا أمام تصعيد أكبر بين الولايات المتحدة والغرب من جهة، والصين وحلفائها من جهة أخرى؛ إذ يبدو أن المسار التصاعدي للقوة الصينية بمختلف تجلياتها على حساب الولايات المتحدة والغرب الرأسمالي وصل لمرحلة لا يمكن معها تحمل استمراره لأنه بالضرورة يؤدي لاضمحلال النظام العالمي القائم حاليا بزعامة الولايات المتحدة وتشكل نظام بديل تتزعمه الصين.
ونحن هنا أمام احتمالين للكيفية التي قد ينتهي بها التصعيد الحالي؛ إما جر الصين لمحاكم دولية والمطالبة بتعويضات خيالية تقدر بالتريليونات، ما يقود لإضعاف قدراتها الاقتصادية عبر حجز ممتلكاتها خارج الصين، وفرض عقوبات عليها، وتكبيلها بمزيد من القيود التجارية التي تقلص من نفاذها للأسواق العالمية المختلفة وإغراقها ببضائعها، وإحباط أضخم مشاريعها (طريق الحرير البري والبحري)، ومن ثم فرملة الاندفاعة الصينية كقوة قائدة بديلة للعالم، الأمر الذي لا يمكن معه للصين أن تقف موقف المتفرج، ومن المتوقع أنه في حال استمرار خصومها في هذا الاتجاه، فإن الصين الهادئة والناعمة لن تكون كذلك بل قد تبرز مخالبها العسكرية، ونجد أنفسنا أمام حرب متدحرجة في قوتها قد تصل معها أطرافها لتدمير بعضها البعض. وهو سيناريو مستبعد في ظل إدراك الطرفين ليس فقط لمآلاته التدميرية، بل وأيضا لظروف هذه الأطراف الراهنة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
إذ ألقت أزمة كورونا بظلها على الأوضاع الاقتصادية العالمية وأدخلتها في نفق الركود ومخاوف الكساد، وهي أوضاع لم تكن في أحسن حالاتها من قبل؛ حيث فاقمتها حرب التعريفات الجمركية وحرب العملات التي نشأت بين الولايات المتحدة والصين منذ العام 2018، وأدت لتراجع اقتصاداتها بصورة ملحوظة مقارنة بالسنوات السابقة.
إذ مرت الصين في العام 2019 بواحد من أسوء أعوامها خلال ما يقارب الثلاثة عقود؛ وذلك بالنظر إلى الأزمات التي تعرضت لها على مدار العام، بدءاً من الحرب التجارية مع الولايات المتحدة التي تسببت، حسب إحصائيات حكومية، بتباطؤ نموها الاقتصادي وانخفاضه إلى أدنى مستوياته منذ العام 1992، وتراجع الاحتياطيات النقدية بنحو 15 مليار دولار، في شهر سبتمبر 2019، ليبلغ 3.092 تريليونات دولار، وهو الانخفاض الأكبر خلال الخمسة أعوام الماضية، مروراً بالاضطرابات والاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة في هونغ كونغ، وليس انتهاء بالحملة الدولية الداعية إلى وقف ما يقال إنها انتهاكات تمارسها السلطات الصينية بحق أقلية الإيغور المسلمة في إقليم شينجيانغ.
أما الولايات المتحدة فمنذ مجيء ترامب لسدة الرئاسة تشهد سياسات حمائية وانكفائية بغرض حماية قطاع الصناعات التحويلية الأمريكي تحت شعار (أميركا أولا)؛ حيث انسحب من اتفاقيات دولية وإقليمية ومنظمات دولية، ومؤخرا علق مساهمة بلاده المالية في منظمة الصحة العالمية بذريعة محاباتها للصين خلال جائحة كورونا، كما تبادلت واشنطن وبكين فرض رسوم جمركية انتقامية في معركة استمرت شهورا، وفرض ترامب أيضا رسوما أثارت غضب الاتحاد الأوروبي وشركاء تجاريين رئيسيين آخرين.
كما ارتفع العجز التجاري في الولايات المتحدة إلى أعلى مستوى في عشر سنوات في 2018، وخلال أول خمسة أشهر من العام 2019، فإن العجز التجاري الأمريكي ارتفع بمقدار 15.7 مليار دولار أو ما يعادل 6.4 بالمائة مقارنة مع نفس الفترة من العام 2018 مع زيادة 0.5 بالمائة و1.6 بالمائة في الصادرات والواردات على الترتيب، أيضا سجل العجز في الميزان التجاري ذو الحساسية السياسية مع الصين مستوى قياسيا مرتفعا، على الرغم من فرض إدارة ترامب رسوما على نطاق واسع من السلع المستوردة في مسعى لتقليص الفجوة، فيما بات الدين الأميركي أضخم من اقتصاد الولايات المتحدة نفسه، فقد وصل إلى 22 ألف مليار دولار في عهد دونالد ترامب، وهو حجم قياسي نتيجة عجز مزمن وتراكم فوائد الديون.
وتعي الصين كما الولايات المتحدة وحلفائها، أنه بالرغم من حالة التنافس الشديد بينها، إلا أن هناك علاقة مشتركة، قائمة على المنفعة المتبادلة بين الطرفين، حيث أن الصين استفادت من النظام العالمي الراهن وسياسة الانفتاح التي ساهمت بغزو اقتصادها للعالم، وحيث الولايات المتحدة وأوروبا هم أهم زبائنها. كما أن الولايات المتحدة تعي جيدا أن الصين لازالت أكبر دائنيها وأهم المستثمرين في سندات الخزانة الأميركية، وصاحبة أكبر احتياطي نقدي دولاري.
ما سبق يقود للاحتمال الآخر وهو المرجح هنا، أن الطرفين سيسعى كل منهما لتصعيد محسوب يقود لطاولة مفاوضات يقدم على إثرها كل طرف تنازلات، تمكنه من الحفاظ على النظام الدولي الراهن القائم على الانفتاح الاقتصادي وفق شروط تحمي اقتصادات الدول المتنافسة من هيمنة أحد أطرافها، وهو ما سيعني تدريجيا الانتقال لنظام التعددية القطبية بصورة أكثر هدوءً، على المستوى المتوسط المنظور، ربما لحين استكمال الصين سياساتها الرامية للتخلص من هيمنة الدولار الاقتصادية التي تكبلها كما تكبل باقي العالم.